الماضي .. هل يطاردنا أم
نطارده ؟ هذا هو السؤال الذي ستوجهه لنفسك بعد مشاهدة فيلم "الماضي" من
إخراج الإيراني "أصغر فرهادي".
الفيلم يعد دَمْجا للسينما الفرنسية
والإيرانية وللثقافتين أيضاً. فالتأليف والإخراج لـ"أصغر فرهادي"
والتمثيل موزع بين ممثلين إيرانيين وفرنسيين .
تدور أحداث الفيلم في ثلاثة أيام، وتتمحور
حول حياة امرأة فرنسية أرسلت لزوجها الإيراني المنفصلة عنه كي يجيء إلى فرنسا
لينهي اجراءات الطلاق.
يبدأ الفيلم بمشهد للمطار في إحدى مدن
فرنسا، حيث تلوّح امرأة لرجل وصل لتوه على متن الطائرة القادمة من طهران .
تلك المرأة هي
"ماريان" و التي لعبت دورها الممثلة الفرنسية "برينيس بيجو"
وذلك الرجل هو "أحمد" الذي لعب دوره الممثل الإيراني "علي
مصطفى".وهما الزوج والزوجة المنفصلان.
فالزوج
الإيراني "أحمد" ذهب منذ سنوات للعيش في فرنسا، لكنه فشل في الحياة هناك.
ليعود إلى وطنه وهو يجر أذيال الخيبة بعدما تعرض لأزمة نفسية شديدة، ترك على إثْرها
زوجته الفرنسية وابنتيها، محاولاً أن ينسى التجربة برمتها. لكنه لم يقطع علاقته
كليةً مع "ماريان". بل استمرا في تبادل الرسائل عبر البريد الإلكتروني
كل فترة. لتطلب منه في الرسالة الأخيرة أن يذهب لفرنسا ليُنهي اجراءات الطلاق،
ليفاجأ بعد حضوره بوضع جديد. فـ "ماريان" قد ارتبطت بشخص آخر ويقيم معها
في المنزل هو وابنه الصغير ذو الخمسة أعوام.
علاقة "ماريان
"و"سمير" جادة. فـ "ماريان" قد حَمَلت بالفعل من
"سمير" وتنتظر أن يتزوجا بعد أن ينهي مشكلته مع زوجته. تلك الزوجة
الراقدة في غيبوبة بعد محاولة انتحار، عقب أزمة نفسية ألمّت بها وأودت بها نحو
اكتئاب حاد.
بعد وصول "أحمد" تُخبره
"ماريان" أنها لم تحجز له للمبيت في فندق، فيضطر أن يشارك الطفل الصغير
ابن "سمير" في غرفته. سيبدو ذلك للمتفرج نوع من أنواع الانتقام، وهذا
حقيقيّ. فـ "ماريان" لازالت واقعة في حب "أحمد"، وأتت به من
طهران إلى فرنسا ليري أنها بخير من دونه وأنها تقيم علاقة ناجحة وجادة مع غيره.
فيما بعد هذا المشهد التمهيدي، تبدأ ظهور
الشخصيات الأخرى المحورية في الفيلم. وعلى رأسهم "لوسي" الابنة الكبرى
لماريان من زوجها الأول، والتي قامت بدورها الممثلة الفرنسية الشابة "بولين
بورليه".
مراهقة في السادسة عشر تبدو عليها علامات
الإرهاق والإكتئاب. ليست على وفاق مع أمها وتحاول استفزازها بكل الطرق كي لا تتزوج
من "سمير". تعود للبيت ليلا، من
أجل النوم فقط. كانت متعلقة بزوج أمها الإيراني وتُحبّه جدا، مما يدفع الأم أن
تطلب منه الحديث إليها.
تكشف "لوسي"
لـ"أحمد" الزوايا الخفية في علاقة أمها وسمير. فزوجته التي حاولت
الانتحار لازالت في غيبوبة ولم تمت كما يظن أحمد. وحين يحاول اقناعها أن انتحار
"سيلين" لا دخل له بعلاقة أمها وسمير، تعترف له أنها أرسلت كل رسائل
الغرام بين أمها و"سمير" إلى "سيلين" قبل انتحارها بيومين !.
وأن انتحار سيلين هو سبب عدم بقائها في المنزل، فالشعور بالذنب تجاه
"فؤاد" ابن "سمير" يقتلها.
ثم تعود وتبرر فعلتها بأنها كانت محاولة لإبعاد أمها عن سمير. فأمها تزوجت بعد
أبيها مرتين، وفشلت فشلا ذريعا بعدما هجرها زوجيها. ثم هاهي ترتبط
بـ"سمير" والذي سيتركها يوما ما لا محالة لأنه لازال متزوجا.
الشخصية المحورية التالية هي
"سمير". الرجل الذي حاولت زوجته قتل نفسها أمام نظر ابنهما الصغير،
بعدما عرفت عن أمر علاقته مع ماريان، الأمر الذي كان خافيا عليه ولم يعلمه حتى
نهاية الفيلم. "سمير" شخص غيور، يشعر أن علاقة ماريان به لم تكن إلا
لملء فراغ تركه "أحمد" في حياتها. كما أنه أب خائف على ابنه من التغيرات
التي طرأت على حياته مؤخراً، لذا نراه غاضبًا بشدة من ظهور أحمد.
الشخصية الخامسة هي الطفل
"فؤاد" ابن "سمير"، والذي قام بدوره الطفل الفرنسي "إليه
أجيس" والذي برع في تجسيد الدور.
فنظرات الغضب الدائم على ملامحه تفوق سنه كثيراً ولا تصدُر إلا من طفل غاضب فعلا
أو ممثل ماهر. شخصية فؤاد، مُركبة وصعبة. طفل تنتحر والدته أمام ناظريه بعد أن
شربت سائل التنظيف, ثم يُجبَر على أن يترك منزله ليذهب ليعيش مع عشيقة والده -التي
كانت سببا في انتحار أمه- وابنتيها. ثم تجبره ماريان أن ينام في غرفه واحده مع
زوجها السابق والذي يعامله بلطف شديد على عكس والده ومارايان -التي تكون عصبية
أحياناً-. ثم يُجبر مرة أخرى أن يعود إلى منزلهم الذي سبق وأخبره والده أنهما لن
يعودا إليه مرة ثانية.
لا يفهم الطفل لماذا لا
يفصل الأطباء الأسلاك وأجهزة الإعاشة عن أمه فهي بكل بساطة لا تريد أن تعيش.
فعندما يحاول أحدهم الإنتحار هذا يعني أنه لا يريد الحياة !.
هذه كانت نوعية الأفكار
التي تغزو رأس "فؤاد" معظم الوقت.
ثم يجيء دور "لِيا" الابنة
الثانية لماريان من زوجها الثاني والتي لعبت دورها الطفلة الفرنسية "جين
جاستين". طفلة عادية انفصلت أمها –أيضًا-عن والدها. لا تفهم أي شيء مما يدور
حولها في المنزل من خلافات وشجارات منذ أن ظهر "أحمد" ثانيةً. لكنها
توضح أنها لا تريد أن تبقى في المنزل إن غادرته أختها الكبرى "لوسي".
ثم يجيء دور الشخصيات
الثانوية وهم ببساطة ثلاث شخصيات:
"شهريار" الصديق الإيراني
لـ"أحمد" والذي قام بدوره الممثل الإيراني "بابك كريمي"
وزوجته "فاليريا" والتي قامت بدورها "فاليريا كافالي" وهما
شخصان على عكس "أحمد" نجحا في العيش في فرنسا ولم يعودا لإيران مرة أخرى
بعد أن فتحها مطعم ومقهى ونجح مشروعهما واستطاعا التكيف على العيش في فرنسا .
ثم يجيء دور الشخصية الأخيرة
"نعيمة". الفتاة التي تعمل بصفة غير قانونية في محل "سمير"
لغسيل الملابس والتي قامت بدورها "سابرينا أوزاني". ويتضح لنا أنها
السبب الرئيسي في انتحار "سيلين" زوجة "سمير". فعندما اتصلت
"لوسي" لأول مرة بزوجة "سيلين" ردت نعيمة عليها وأعطتها إيميل
"سيلين" ظناً منها أن "سيلين" تكرهها وتريد طردها من العمل أو
تسليمها للشرطة.
وبما أننا نتحدث عن
فيلم من تأليف وإخراج "أصغر فرهادي" فيجب إذاً أن نُفتّش عنه بين شخصيات
الفيلم. فـ"أصغر فرهادي" متأثر دائما وأبدا بفكرة الإنفصال والطلاق في
أفلامه كما فعل من قبل في فيلم
A Separation (2011). فوالدا أصغر فرهادي انفصلا عن بعضهما البعض وهو لا يزال
طفل صغير. الأمر الذي
ترك أثره الحاد في نفس أصغر وانعكس في معظم أعماله بشكل كبير.
فيمكنك عزيزي القارئ
أن ترى انعكاس شخصيته بوضوح في شخصيات كل من الأبناء "فؤاد" و"لوسي" و"لِيا". حيث التشتت والاكتئاب وإحساس الضياع بين علاقات الأم
والأب المتعددة. فالحياة
الزوجية تخص الأب والأم وحدهما وعندما تنتهي ويقرر الأم والأب الانفصال لا يستطيع
الأطفال منع ذلك بأي حال على الأحوال.
يميل "أصغر" في معظم أعماله إلى النهايات المفتوحة غير المفهومة. فالفيلم ينتهي و"سمير" ذاهب للمستشفى في محاولة أخيرة لإفاقة زوجته، حاملاً معه جميع زجاجات
العطور الخاصة بهما كما طلب منه الطبيب. ليخرج إليه الطبيب ويخبره أن لا أمل، فالمريضة لا تستجيب. فيعود ويسأل "سمير" الممرضة هل جربتم كل العطور؟ لتجيب بل فقط اثنان. ليدخل إلى غرفة زوجته ويضع من العطر الذي كانت تفضله ويقترب منها.. لتنساب دمعة من عينها اليسرى ثم ينتهي المشهد وهو ممسك
بيديها منتظر أن تضغط عليها. ليتركك
المخرج في حيرة هل حقا لمحنا حركة خفيفة؟ أم أننا تخيلنا ذلك؟ وما معنى الدمعة؟ هل
هي شيء ذو قيمة طبية أم ليس لها علاقة بالأمر؟
هكذا ينتهي الفيلم ولا
نعلم.. هل سيبقى "سمير" بجوار زوجته أم سيعود لـ"ماريان"؟ كيف
ستعيش "لوسي" بذنب "سيلين"؟ هل سيعود "أحمد" لحياته
في إيران بهذه البساطة وكأن شيئاً لم يكن؟
الفيلم ليس له موسيقي
تصويرية. فقد اعتمد المخرج على الأصوات الخارجية من مرور سيارات ومشاه وحديث الناس
فقط. كذلك لا يوجد مكياج للممثلات والممثلين. وقد اختار المخرج الأم وابنتيها بدقة
شديدة، فيمكنك أن تلاحظ الشبه الكبير بينهم وأنهن جميعاً يملكن نفس نوعية الشعر
ومشتركات في الهيئة والمظهر العام
الفيلم عبارة عن عرض لحياة أسرة في ثلاثة
أيام وما طرأ عليها من ظهور شخصيات من الماضي دون تدخل المؤثرات البصرية والسمعية
في الفيلم. وهو الأمر الذي اعتاده "أصغر" في أفلامه سواء كانت إيرانية
خالصة أم ذات إنتاج مشترك مع دولة أخرى كـفيلم "الماضي" الذي نتحدث عنه
.
دَمَج الفيلم -كما ذكرت سابقا- بين السينما
الإيرانية بتفاصيلها وطريقة إخراجها المميزة وبين السينما الفرنسية بممثليها الذين
بذلوا مجهودا كبيرا للقيام بعمل مختلف عن نمط الأعمال الفرنسية التي اعتادوا
عليها. وكذلك الدمج بين الثقافتين فبالرغم من أن "أحمد" ترك إيران وتوجه
بمحض إرادته إلى فرنسا، إلا أنه لم يستطع التكيّف مع العادات الجديدة ففشل في
الحياة وعاد لوطنه. وبالرغم من أنه
منفصل عن زوجته لم يتقبل فكرة إقامتها علاقة مع أحدهم وأن يعيشا معا في منزل واحد
قبل انتهاء اجراءات طلاقها.
في النهاية، لا تستطيع أن تدرك كم الأفكار التي يحملها
الفيلم من مشاهدة واحدة. وربما ستحتاج أن تعيد الكرة لتفهم أكثر وتستوعب التفاصيل
أكثر فهذا العمل من نوعية الأفلام التي سترى فيه كل مرة تشاهده، شيئا جديدا عن
المرة السابقة. فالكثير من الأمور ذكرها الممثلين بالتلميح لا بالتصريح خلال
الحوار. وإن كنت من معجبي "أصغر فرهادي" وتعرف عن حياته القليل ستجد
نفسك تربط بين شخصيات أفلامه وبين شخصه والإطار الذي دائماً يرسمه لأفلامه.